سورة يونس - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)}.
التفسير:
جاز الوادي، والنهر: أي قطعه، وبلغ جانبه الآخر.. وجاوزه: أي بعد عنه بعد أن جازه.. وتجاوز عن فعلة فلان: أي غفرها له، وتخطاها، ولم يحاسبه عليها.
العدو: العدوان والتعدّى والظلم.
{وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
العطف هنا في قوله تعالى {وَجاوَزْنا} يدل على معطوف عليه، محذوف، إذ جاء ذكره في مواضع أخرى من القرآن الكريم، عند عرض جوانب من تلك القصة.. وهو خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ليلا، وخروج فرعون بجنوده وراءهم ومداناته لهم وهم في مواجهة البحر، ثم اضطرابهم وحيرتهم وهم بين فرعون وبين البحر، ثم ضرب موسى بعصاه البحر، وانفلاق البحر، وكشفه عن طريق يبس لهم، وركوبهم هذا الطريق حتى بلغوا العدوة الأخرى منه.. ثم مجىء فرعون، وركوب هذا الطريق.
ومع هذا الإيجاز الذي أجملت فيه الآية الكريمة كل هذه الأحداث وطوتها، فإن الذي أمسكت به الآية من عناصر القصة، هو الوجه البارز منها، والملامح المميزة لها.
فهؤلاء هم بنو إسرائيل يجاوزون البحر.. وهذا هو فرعون وجنوده يلاحقونهم، ويريدون أن يمسكوا بهم قبل أن يفلتوا.. ثم إذ يرى فرعون طريقا يبسا في البحر لا يتوقف، ولا يسأل نفسه: كيف كان هذا الطريق؟
وهل هناك قوة بشرية قادرة على أن تشقه هكذا بين الأمواج المتلاطمة؟
إنه لو توقف قليلا وتدبّر الأمر لعلم أنه أمام معجزة قاهرة، وأن عليه أن يراجع نفسه، وأن يؤمن باللّه الذي يدعوه موسى إلى الإيمان به.. ولكنه يمضى فيركب هذا الطريق، غير ملتفت إلى شىء، إلا النقمة من بنى إسرائيل، الذين هربوا بليل، وخرجوا عن سلطانه، وأفلتوا من يده.. ثم هاهو ذا البحر يطبق عليه، ويدركه الغرق، ويطل عليه شبح الموت، فيصرخ من أعماقه طالبا الغوث والنجاة.. ثم تخطر له خاطرة يرى في التعلق بها نجاته من هذا الموت المحقق.. إن بنى إسرائيل قد ركبوا هذا الطريق، فوصل بهم إلى شاطىء النجاة، وإن الذي فعل بهم هذا هو إلههم الذي آمنوا به، وأنه لو آمن بهذا الإله لنجّاه كما نجاهم.. هكذا فكّر وقدّر وهو في هذا البلاء: {حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لقد تخلّى عن آلهته التي كان يعبدها، إذ تخلت هى عنه في هذه الشدة، وإنه ليؤمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إنه الإله الحق، وكل آلهة غيره باطل وضلال..! هكذا يقول.. وهكذا يلقى الجواب:
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}؟. الاستفهام هنا إنكارى، ينكر على فرعون هذه الدعوى، وأن إيمانه باللّه غير مقبول منه، إذ جاء وقد بلغت الروح الحلقوم، وأشرفت به على العالم الآخر، فرأى الحق عيانا.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [18: النساء].
لقد آمن فرعون، ولكنه إيمان المضطر المكره، وإنه {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}.
، ولا حساب لمثل هذا الإيمان.. وقد كان هذا الإيمان الباطل، هو الذي طلبه موسى لفرعون من ربه في قوله: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ}.
وقد آمن فرعون، وآمن معه كثيرون من الغرقى من قومه، وذلك بعد أن رأوا العذاب الأليم الذي ينتظرهم يوم الحساب! فكان إيمانهم هذا لغوا باطلا.
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ}.
الخطاب هنا لفرعون، وهو يعالج سكرات الموت، أو وهو ميت، إذ هو حىّ يسمع ويبصر كل شيء يجرى في هذه الدنيا.. وقد تحدث الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.. إلى قتلى المشركين في بدر، وهم في القليب، فسأله أصحابه: أيسمع الموتى؟ فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: ما أنتم بأسمع منهم في قبورهم! ونجاة فرعون ببدنه، وإلقاء البحر له جثّة هامدة متعفنة على الشاطئ، فيه عبرة لمعتبر.. فهذا الإنسان الذي كان يملأ الأرض بغيا وعدوانا، ويقول في الناس: {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} [38: القصص] ويقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [24: النازعات]. هذا الإنسان قد صار في لحظات جثة هامدة، وكوما من لحم بارد! فأين ملكه؟ وأين سلطانه؟ وأين بطشه وجبروته؟ لقد ذهب كل ذلك عنه، وتعرّى من كل شيء كان بين يديه! {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ}.
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
فهذه يد القدرة القادرة، تحفظ موسى وليدا، وتحمله على اليمّ رضيعا، ثم تضعه على الشاطئ، كما تضع الأم وليدها، وهو يشق طريقه إلى الحياة.
فتتلقفه القابلة، وتصلح من شأنه، وتهيئ له أسباب الحياة في عالمه الجديد.
ثم هذه يد القدرة القادرة، تدفع بفرعون إلى اليم، وتميته فيه غرقا، وتدفنه في أعماقه، ثم تلقى به إلى الشاطئ، جثة باردة متآكلة متعفنة..!
وهكذا يلتقى ميلاد موسى بهلاك فرعون، كما يلتقى الحق بالباطل، والنور بالظلام!


{وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)}.
التفسير:
المبوّأ: المنزل، الذي يبوء إليه الإنسان، أي يرجع إليه بعد مطافه للسعى وراء رزقه.
والآية تتحدث عن نعمة اللّه على بنى إسرائيل، بعد أن نجّاهم من فرعون، وأطلقهم من يده، وأخرجهم من منزل الهوان والذلة، إلى دار أمن، وسلام، واطمئنان.. فملكوا أمر أنفسهم، وعرفوا طعم الحرية، وتنسموا ريحها الطيب.
العلم وأسلوب تحصيله:
وفى قوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ}.
اختلف المفسرون في هذا المقطع من الآية الكريمة.. في العلم الذي جاء إلى بنى إسرائيل، وفى الاختلاف الذي وقع بينهم.
فذهب بعضهم إلى أن العلم الذي جاءهم، وأوقع الاختلاف بينهم، هو التوراة.. ويعلّلون لهذا بأنهم كانوا قبل ذلك على حال واحدة من الضلال، فلما جاءتهم التوراة، اختلفوا، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.
وذهب آخرون إلى أن العلم هو النبي صلى اللّه عليه وسلم، وما عرفوا من صفته في التوراة، وأنهم كانوا على اتفاق بأن نبيا قد يظهر من العرب، وأن زمانه قد أظلّهم، فلما جاءهم ما عرفوا، تفرق رأيهم فيه واختلفوا: فكفر به أكثرهم، وآمن به قليل منهم.
والرأى عندنا.. أن يكون المراد بالعلم، هو العلم على إطلاقه.
ذلك أن العلم، وهو نعمة من نعم اللّه، وهدى من هداه، من شأنه أن يكون مصدر خير وهدى للناس، ولكنه- شأنه شأن كل نعمة- كثيرا ما يكون سببا في الخلاف والتفرق.. الخلاف في الرأى، والتفرق شيعا وأحزابا، تبعا للاختلاف في الرأى.
وتلك حقيقة واقعة في ماديات الحياة ومعنوياتها.
المجتمعات الفقيرة، التي تعيش على فطرتها وطبيعتها، مجتمعات متوحدة المشاعر والعواطف، متماسكة البناء.. ليس فيها طبقات ولا شيع ولا أحزاب.
كلها لون واحد، وصبغة واحدة.
فإذا كثر رزقها، وفاض الخير فيها، وقع التمزق، وانحلّت الروابط، وتمايز الناس طبقات، بعضها فوق بعض، وأصبح الجسد الاجتماعى أشلاء ممزقة.. كل عضو فيه منفصل عن بقية الجسد.. فهنا عيون الناس، وهناك رءوسهم.. وهنالك أيديهم.. وأرجلهم! والعلم، شأنه كهذا الشأن.. العلماء والحكماء والفلاسفة في واد، والجهلة والعامّة في واد.. هؤلاء في عالم وأولئك في عالم آخر.
ثم العلماء والحكماء والفلاسفة.. كل له رأيه، وعلمه وحكمته، وفلسفته.. كل له متجه في تفكيره، وفى نظره إلى الوجود، وقربه، وبعده من الحقيقة.. {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
وبنو إسرائيل ليسوا وحدهم هم الذين يثير العلم خلافا بينهم، ويجعلهم أحزابا وشيعا.. بل هذا هو شأن الناس جميعا- كما قلنا- وإذن فالسؤال الوارد هنا هو:
لما ذا اختصّ بنو إسرائيل بالذّكر هنا، وعرضوا في معرض اللوم والتقريع؟
والجواب على هذا، هو أن ذلك تحذير للمسلمين من الخلاف الذي يجيئهم من واردات العلم، كما اختلف الذين من قبلهم من بعد ما جاءهم العلم.
وقد نبه النبي الكريم في هذا، وحذر منه.. فقال صلوات اللّه وسلامه عليه:
«لتتّبعنّ سنن الذين من قبلكم شيرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لا تبعتموهم».
ويقول النبي الكريم أيضا؟ وقد تنبأ بهذا الخلاف «اختلف اليهود على ثلاث وسبعين فرقة، واختلف النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتختلف أمتى على إحدى وسبعين فرقة.. كلها في النار إلا فرقة واحدة، قالوا يا رسول اللّه: من هى؟ قال: ما عليه أنا وأصحابى».
وقد صدق اللّه العظيم، وصدق رسوله الكريم.. فما أن ورد المسلمون موارد العلم، وأخذوا بحظهم من الحكمة والفلسفة والمنطق وغيرها، حتى أجلبوا بكل هذا الذي أخذوه، إلى كتاب اللّه، وخرّجوا آياته عليه، فوقع بينهم هذا الخلاف الذي عرفته الحياة، وسجله التاريخ.. فقالوا بالجبر والاختيار، وقالوا بالتنزيه والتجسيد، وقالوا بخلق القرآن، وبقدم القرآن، وقالوا بإمكان رؤية اللّه، وبعدم إمكان الرؤية.. وهكذا كان لهم في كل مسألة آراء، ينقض بعضها بعضا.. وكانوا فرقا بلغت إحدى وسبعين فرقة، كما قال الرسول الكريم.
ولكن هنا سؤال أيضا:
كيف يتفق هذا، ودعوة الإسلام إلى العلم، وطلبه طلبا مفروضا في بعض الأحيان، ومندوبا إليه في بعض الأحيان الأخرى؟ وكيف يتفق هذا وقد رفع الإسلام من قدر العلماء، ونوّه بهم في أكثر من موضع من القرآن الكريم، وفى أكثر من حديث من أحاديث الرسول؟
والجواب على هذا، هو أن دعوة القرآن إلى العلم وطلبه، والجدّ في تحصيله لا يمنع من التحذير منه.. فهو سلاح ذو حدين.. إن لم يكن مع العلم تقوى وخشية من اللّه، قتل به صاحبه نفسه، وقتل كثيرا من الناس به.
والخلاف في الرأى- إذا تجرد من الهوى- خلاف لا ينكره الإسلام بل يزكّيه، لأنه اجتهاد في طلب الحقيقة، وتقليب للنظر في التماسها، وتعاون بين المختلفين على الوصول إليها.. يحيئون إليها من طرق شتّى، وقد يلتقون عندها، وقد لا يلتقون، ولكنهم جميعا ينشدونها، ويباركون من يدلّهم عليها، ويحمدون له اجتهاده وسبقه.
وقد اختلف صحابة رسول اللّه فيما بينهم على كثير من المسائل.. ولكن هذا الاختلاف، كان تمحيصا للرأى، وطلبا للحق، وبلوغا بالقلب والعقل إلى مقام اليقين والاطمئنان.
فهذا هو العلم الذي يدعو إليه الإسلام، ويبارك على أهله، ويفتح لأبصارهم وبصائرهم صفحات الكون كله، ينظرون فيها نظرا مطلقا غير مقيد بقيد.. وغاية ما يطلبه الإسلام من العالم هنا، هو أن يطوّف ما يطوف في آفاق العلم، ومعه إيمانه وتقواه.. ثم يعود آخر المطاف، ومعه إيمانه وتقواه.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم، سواء كان عن طلب حقّ وهدى، أو كان جريا وراء هوى ومكر بالناس، فإن اللّه يعلم المحقّ من المبطل، وسيجزى كلّا بما انعقدت عليه نيته.
قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ.. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
لم يكن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه في شكّ مما أنزل عليه من ربه، ولم يكن يطوف به أي طائف من الشكّ أو الامتراء، أو التكذيب.. وكيف وهو يرى ملكوت السماء عيانا؟ وكيف وقد ثبّت اللّه قلبه، وأخلاه من كل وسواس؟. وهل يشك صاحب الرسالة في رسالة تلقّاها من ربه، وأقرأه إياها ملك كريم من ملائكته.. يغدو ويروح إليه أياما، وشهورا، وسنين، وكيف يكون منه أثارة من شك أو تكذيب؟ وهو الذي احتمل في سبيل رسالته تلك ما لا تحتمل الجبال من ضر وأذى؟ أيكون من شكّ أو تكذيب، ممن يساوم على هذا الذي بين يديه بالمال والسلطان، فيقول: «واللّه لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك فيه ما تركته!».
وإذن فما تأويل ما نجد في الآيتين الكريمتين، من هذا الحديث الموجّه إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، من التحذير من أن يكون من الممترين أو من المكذبين؟.
والجواب- واللّه أعلم- أن ذلك تعريض بأولئك الذين يكذبون بآيات اللّه ويمترون فيها، من المشركين، وأهل الكتاب، ثم هو تهديد لهم، ووعيد بالخيبة والخسران، إن هم لم يبادروا ويأخذوا بحظهم من هذا الخير المرسل من اللّه، إلى عباد اللّه!.
ومن جهة أخرى، فإن خطاب النبي من ربه هذا الخطاب، يضع النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- بضعه والناس جميعا على سواء بالنسبة للقرآن الكريم، وأنه ليس له فيه شىء.. إنه من عند اللّه، ومن كلام اللّه، وليس من كلام النبي، ولا من كلام أحد من البشر، وإنه علم يحمل إلى الناس في آيات اللّه وكلماته. وأنه إذا كان للناس أن يشكّوا في هذا العلم ويضعوه موضع الاختبار فليشكّوا، وانه إذا كان لهم أن يختلفوا على معطيانه فيما بينهم فليختلفوا- ولكن على شريطة أن يكون ذلك في سبيل الاهتداء إلى الحق والتعرف على ما يملأ العقل نورا به، والقلب اطمئنانا وسكنا إليه.. وإلا فهو اختلاف يفرّق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع، كاختلاف بنى إسرائيل حين جاءهم العلم.
وإذن، فالنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه، والناس جميعا- هم على سواء أمام تلك الحقيقة العليا، المنزلة من السماء.. ينظرون فيها، ويتعرفون وجه الحق منها، وأنه يمكن فرضا- وإن كان مستحيلا واقعا- أن يشكّ النبي في هذا القرآن، وأن يلقى نظرة فاحصة عليه، ليتثبّت من الحقائق التي يدعى إلى الإيمان بها.. وهذا حق مشروع له، كإنسان، قبل ألا يكون نبيا.
وفى هذا- كما قلنا- ردّ مفحم على المشركين والكافرين الذين يدّعون أن هذا القرآن من عند محمد، ومن مقولاته.. إذ مستحيل فرضا وواقعا أن يشكّ إنسان في قول صدر منه، أو يمترى ويكذّب بقول، يعرضه على الناس، ويدعوهم إلى التصديق به!!- وفى قوله تعالى: {فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ}.
هو دعوة لأهل الكتاب أن ينظروا في هذا الكتاب العجيب، الذي يشكّ فيه صاحبه، وواضعه، كما يزعمون!.
إن ذلك إغراء لهم بدراسة هذا الكتاب وتفحّصه، إذا كان كتابا شأن صاحبه معه، هو هذا الشأن.
ولا تطلب الدعوة الإسلامية إليهم وإلى غيرهم من المنكرين المكذبين أكثر من أن ينظروا في هذا الكتاب نظر تفحص، وإمعان.
وإنهم لو فعلوا، لعرفوا أنه الحق من ربهم.. وأنه إذا كان هذا الكتاب منزّلا على محمد، هو منزل إليهم أيضا.. كما يقول اللّه تبارك وتعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ..} [136: البقرة] ومن جهة ثالثة، فإننا إذ نقرأ قوله تعالى، للنبى الكريم: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} نلمح في وجه الآية الكريمة دعوة إلى البحث والنظر، وتقليب حقائق الأمور، وعرضها على العقل، ووزنها بميزانه، قبل الأخذ بها، وألّا يقبلها قبول استسلام وإذعان من غير اقتناع قائم على الدراسة والتأمل، ومهما كانت ثقة الإنسان في مصدرها، فإن هذا لا يحرم العقل حقه من النظر فيها، نظر بحث وتفحص!.
إن الشك- كما يقولون- هو أول مراتب اليقين.
والمراد بالشك هنا هو الشك المثمر، الذي يلقّح العقل بلقاح حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، وارتياد مظانّها، وكشف وجهها سافرا مشرقا.. فهذا شك ولود للمعارف، يضع بين يدى صاحبه محصولا وافرا من العلم الراسخ، والحقائق الموثّقة.
أما الشك الذي يصدر عن وسواس ووهم، فهو داء، يقيم صاحبه دائما على عداء مع كل حقيقة واردة، أو علم مستحدث.. وهذا هو الشك الذي ينكره العلم، كما يبغضه الدين، ويبغض أهله.
الشك الذي تتحدث عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} هو الشك الذي يدعو العقل إلى البحث الجادّ، والنظر المدقق في الحقيقة التي بين يديه، فلا يهدأ، ولا يستقر حتى يقع من الحقيقة على ما يملأ عقله وقلبه يقينا بها، واطمئنانا إليها.. ولقد جاء قوله تعالى بعد ذلك: {فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ}.
ثم جاء قوله تعالى بعد هذا.: {لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} تثبيتا لهذا اليقين الذي يقع في القلب من النظر في آيات اللّه.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} دعوة إلى تجنب الامتراء والجدل في البحث عن الحقيقة.. فإن هذا الامتراء هو الآفة التي تمسك يد الإنسان عن أن تصل إلى حقيقة أبدا.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ} دعوة أخرى إلى تجنب التكذيب بالحقيقة حين يسفر وجهها.. فذلك من شأنه أن يحرم الإنسان ثمرة بحثه عنها، وسعيه من أجل الحصول عليها.. وفى ذلك خسران أىّ خسران.
فمراحل البحث عن الحقيقة، كما تصورها الآيتان الكريمتان.. هى ثلاث مراحل:
مرحلة الشك.. وفيها يتجه المرء بوجوده كله، إدراكا، وشعورا، ونيّة- للبحث عن الحقيقة، والعمل في إخلاص ودأب على الوصول إليها.
ومرحلة التمحيص لما يقع في مجال النظر، من حقائق، تمحيصا معزولا عن المراء والجدل- لمجرد الجدل.
ومرحلة الأخذ بما يؤدّى إليه النظر من البحث والتمحيص.. سلوكا وعملا.
ولا شك أن هذه هى أقوم السبل، وأعدل المناهج في البحث عن الحقيقة في مجال العلم، والفنّ، والدين.
{واللّه يقول الحق وهو يهدى السبيل}.


{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}.
التفسير:
حقت عليهم: أي وقعت عليهم، ووجبت.
كلمة ربك: قضاؤه وحكمه الذي أوجبه وأوقعه عليهم.
والآية الكريمة تشير إلى ما للّه سبحانه وتعالى من سلطان مطلق في عباده، يخلقهم كما يشاء، لما يشاء.. فتلك إرادته النافذة فيهم، ومشيئته الحاكمة عليهم.
وفى عباد اللّه، من خلقهم اللّه لا يقبلون الإيمان، ولا يكونون في المؤمنين أبدا.. كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}.
وكما يقول النبي الكريم: «إن اللّه سبحانه خلق الخلق فقبض قبضة بيده وقال هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقبض قبضة وقال هؤلاء للنار ولا أبالى.. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» فقال الصحابة: يا رسول ألا نتّكل وندع العمل بقدرنا؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم:اعملوا. «فكلّ ميسّر لما خلق له.. فأهل الجنة للجنة ولها يعملون وأهل النار للنار ولها يعملون».
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} إنهم لا يؤمنون أبدا إيمان اختيار ورضا، ولو جاءتهم كل آية قاهرة معجزة.. إن قدرهم يمسك بهم على ما أرادهم اللّه له، ولن يتحولوا عنه.
أما إيمانهم عند الموت، أو عند مشاهدة أهوال يوم القيامة، فلن يحسب إيمانا، لأنه كما قلنا إيمان المكره المضطر، وإنه: {لا إكراه في الدين}.
وهنا تثور في النفس خواطر، وتدور في الرءوس تساؤلات.
لم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد اللّه وصنعة يده.. فيكون فيهم السعيد والشقي، بقدر مقدور عليه، قبل أن يولد؟
وعلى أي أساس قامت هذه التفرقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
فمواليد يولدون للجنة، ومواليد يولدون للنار؟
أسئلة كثيرة تدور هنا، قلّ أن يكون إنسان في الناس- إلا من عصم اللّه- لم تعرض له هذه القضية- قضية القضاء والقدر- فيلقاها مواجها، أو مجانبا، أو حذرا، أو متخوفا.
فالناس جميعا مبتلون بهذه المشكلة.. وإن اختلفت موافقهم منها، وتباينت نظراتهم إليها.
وسيكون لنا موقف- إن شاء اللّه- مع هذه القضية، نستعرض فيه بعضا من نظرات الناظرين إليها، وما حصّلته تلك النظرات من خير أو شر.
ثم نعرض رأى {الإسلام} وموقف المسلم من هذه القضية.
قوله تعالى: {فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
لولا هنا بمعنى هلّا، يراد بها الاستفهام، ويراد من الاستفهام بها الحثّ والحض على فعل المستفهم عنه بعدها، والإغراء به.
والمعنى: هلّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟! والمراد بالقرية هنا، مكة.
وقد أشار إليها القرآن الكريم بهذا الاسم في أكثر موضع، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ} [13: محمد] وقال سبحانه: {وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [31: الزخرف].
وهذه مقولة المشركين من أهل مكة، يحكيها القرآن عنهم، وهم يريدون بالقريتين، مكة، والطائف.
والمفسرون مجمعون على أن هذه القرية مجرد قرية، أية قرية من تلك القرى التي أهلكها اللّه، ولم تؤمن كما آمنت قرية يونس وهى نينوى.
والذي نستريح إليه، ونطمئن له، هو هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، وهو أن المراد بالقرية هو مكة.
وقد جئنا من القرآن الكريم بما يدل على أنه يطلق عليها اسم قرية، وإن كان القرآن قد ذكرها مرة بأنها أم القرى! ولنا على ذلك أيضا:
أولا: أن تنكير القرية يكاد يصرح بأنها مكة وأن كلمة قرية هو علم عليها، وذلك بالإشارة بدلالة الحال عليها.. والتقدير: فهلا كانت قرية اسمها مكة آمنت فنفعها إيمانها؟
ثانيا: في قوله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
وفى هذا عزاء للنبى، وتسرية عنه، مما يعتمل في نفسه من هموم على أهل هذه القرية التي يأبى عليه أهلها- وهم أهله وعشيرته- أن يستجيبوا له، وأن يأخذوا طريق النجاة الذي يدعوهم إليه.
وثالثا: في قوله تعالى: {آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها} وفى هذا الحديث عن القرية بالماضي، وهو الذي لفت أنظار المفسرين إلى أنها من القرى الغابرة- في هذا إشارة إلى أن المراد بالقرية هى مكة.. والحديث عنها بالفعل الماضي يشير إلى أن إيمانها قد تأخر كثيرا، وأنه كان المتوقع منها أن تكون أول من يستجيب للنبى.. لأنه أحد أبنائها.. تعرفه، وتعرف نسبه فيها، ونشأته بين أبنائها، وما عهدت فيه من صدق، وأمانة، وعفة، واستقامة، مما لم تعهده في شبابها أو شيبها.. ولأنها تملك اللسان العربي الذي التقت عليه ألسنة العرب جميعا، والذي نزل القرآن به.. فهى أقدر العرب جميعا على النظر في المعجزة التي جاءها بها هذا النبي، في كتاب كريم، تنزيل من رب العالمين.
فلو أن هذه القرية استجابت للنبى الكريم من يوم أن حمل إليها رسالة ربه، ودعاها إلى الإيمان به، لنفعها إيمانها، ولكانت في ذلك الوقت، الذي تسمع فيه قول اللّه هذا، على حال غير حالها تلك، وعلى صفة غير صفتها هذه، التي هى عليها الآن، من كفر، وضلال.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
فى هذا ما يسأل عنه، وهو:
ما معنى {إلا} الاستثنائية هنا؟ وأين المستثنى منه؟
ونقول إن {إلا} هنا ليست أداة استثناء، وإنما هى حرف استدراك بمعنى {لكن}.
ولما كان الاستثناء، يفيد في مضمونه معنى الاستدراك والتعقيب على المستثنى منه فقد حسن استعمال {إلا} مكان {لكن} إذ كانت قرية يونس تكاد تكون استثناء بين القرى التي جاءها رسل اللّه، فكفرت، ولم يؤمن منها إلا هذه القرية. فأداة الاستثناء هنا تفيد استثناء واستدراكا معا.. لفظها الاستثناء، ومعناها الاستدراك.. وذلك من خصوصيات النظم القرآنى وحده! وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: هلا أسرعت مكة إلى الإيمان بالنبي المبعوث منها وفيها، فانتفعت بهذا الإيمان قبل غيرها، لأنها أولى به، إذ كان مطلعه في أفقها؟ ولكن الواقع أنها لم تؤمن، فحرمت هذا الخير، وأصبحت في معرض نقمة اللّه وبلائه.. هذا هو موقف هذه القرية، وذلك هو حال معظم الأقوام مع أنبيائهم.. إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، فنجاهم اللّه من العذاب الذي أوشك أن يحل بهم، ومتعهم بما كانوا فيه، إلى أن انتهت آجالهم المقدورة لهم.
وفى قوله تعالى: {لَمَّا آمَنُوا} إشارة إلى أن قوم يونس لم يبادروا بالاستجابة لرسولهم، بل كان منهم تلكؤ وتعلل، ولكنهم آمنوا آخر الأمر، فتداركهم اللّه برحمته، وشملهم بعفوه.
وانظر في {لمّا} هذه، واستمع إلى ما يقع لأذنك من نغمها الممتد المتماوج، وما فيه من رعشة واهتزاز، تجد أنها تحكى في دقة وروعة تلبّث القوم، وتلكاهم واضطراب خطوهم، قبل أن يؤمنوا، ويستقيموا على طريق الحق! وانظر مرة أخرى في هذا الذي لمحته من الحرف {لمّا} وما طلع عليك به من إشارات مضيئة، كشفت لك عن حال تلك القرية، قرية يونس، وما كان من توقفها، وتلكئها، ثم استجابتها لرسولها، والإيمان بربها، والانتفاع بهذا الإيمان- تجد وجها آخر من وجوه الإعجاز القرآنى، فيما يجىء به من أنباء الغيب، وأن قريشا ستأخذ مأخذ قوم يونس، وأنهم إذ يقفون من النبي هذا الموقف العنيد العنيف، ستكون خاتمة أمرهم، الإيمان باللّه، والانتفاع بهذا الإيمان، كما كان الشأن في قوم يونس.. وقد كان! فآمنت قريش، وانتفعت بإيمانها وانتفع الإسلام بهذا الإيمان.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
وإذا كان قوم يونس قد آمنوا، وإذا كانت قريش ستدخل في الإيمان.. فإن ذلك كله رهن بمشيئة اللّه.. فما آمن مؤمن إلا كان إيمانه عن مشيئة اللّه، وقدره المقدور له.
وإذن فهؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان من أهل مكة، هم ممن شاء اللّه لهم الإيمان، وأراد لهم الخير.. وهؤلاء الذين لا يزالون على كفرهم وضلالهم، هم ممن لم تدركهم رحمة اللّه بعد، وهذا منادى الحق يناديهم إلى اللّه، ويدعوهم إلى ظلال رحمته.. فليستجيبوا للّه، وليسعوا إلى هذا الخير، وليأخذوا بحظهم منه، فقد يكونون ممن شاء اللّه لهم الإيمان، فتلقاهم مشيئته، وهم على الطريق إليه.
إنه مطلوب من كل إنسان أن يسعى، وأن يطلب الرزق من مظانّه.
والإيمان باللّه هو أعظم الرزق وأطيبه- فإذا كان ممن أراد اللّه لهم الخير، أخذ حظه منه، وإلا فقد سعى سعيه، ولكن إرادة اللّه هى الغالبة، ومشئته هى النافذة.. {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ولأصبح الناس كلهم على طريق مستقيم.. ولكن للّه حكمة، في أن فرق بين الناس، فكان منهم الصالح، والطالح، والمستقيم، والمنحرف، والمؤمن، والكافر، {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [119: هود].
وفى قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} عزاء للنبى الكريم. ومواساة له عن مصابه في قومه الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يتقبلوا الخير الذي جاءهم به.
إنه لا إكراه في الدين، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الدّين عقيدة، والعقيدة إيمان بالمعتقد فيه، والإيمان بالشيء لا يكون حتى يرضاه العقل، وتميل إليه النفس، ويطمئن له القلب.
وليس في شيء من هذا مكان للإكراه، بل إن الإكراه هو الآفة التي تحجب القلب عن الإيمان، وتغتال الإيمان إذا هو وجد طريقا إلى القلب.
والأمر الثاني: أن القلوب وهى مستودع الإيمان، هى يد اللّه سبحانه وتعالى، إن شاء ساق إليها الإيمان، وهيأها لاستقباله، ونفعها به، فأزهر فيها وأثمر، وإن شاء صرفها عن الإيمان، وختم عليها، فلم تقبله، ولم تنتفع به.. {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}.
وعلى هذا، فإنه غير مطلوب من الرسول أن يكره أحدا على الإيمان باللّه.. لأنه لن يؤمن مؤمن إلا عن مشيئة اللّه وإرادته.. ثم لأن الإيمان عن إكراه هو زرع في أرض مجدبة، لا تنبت زرعا ولا تطلع ثمرا.! {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} [40: الرعد].
قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} هو تعليل للإنكار الذي تضمنه الاستفهام في الآية السابقة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
ذلك أنه إذا كان الإيمان رهنا بمشيئة اللّه، فليس يجدى بحال أبدا هذا الحرص الشديد، الذي يبدو من النبىّ، وهو يدعو أهله وقومه إلى الإيمان باللّه، وإن المطلوب منه هو أن يرفع مصباح الهدى للناس، وأن يكشف لهم به الطريق إلى اللّه.. فمن كان ممن أراد اللّه لهم الهداية اهتدى، ومن كان ممن أصلّهم اللّه، فلا هادى له.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وفى قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}.
الرجس: القذر، والنّجس.
ووضع الرجس في مقابل الإيمان، إشارة إلى أن الإيمان طهر، وتزكية، وتطييب للمؤمن.. على خلاف الكفر، فإنه قذر، ونجس، ورجس، يلبس صاحبه، ويشتمل عليه، كما يلبس الجلد الجسد ويحتويه! وفى وضع الذين {لا يعقلون}، بدل الذين {لا يؤمنون} كما يقضى بذلك السياق- إشارة أخرى إلى أن الكفر هو وليد الجهل والحمق، وعدم استعمال العقل وتوجيهه إلى تعقّل الآيات المبثوثة في هذا الكون، الذي تتجلّى في آفاقه آيات الخالق، المبدع، وقدرة الحكيم العليم، الخالق، المصوّر.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
{قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} جاء داعيا إلى توجيه العقل إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وقراءة ما سطرته يد القدرة على هذا الوجود من آيات ناطقة، تحدّث عن الخالق العظيم، وتسبّح بحمده، في ولاء، وانقياد وخشوع!- وفى قوله تعالى: {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} توكيد لما قررته الآيات السابقة، من أنه لا تؤمن نفس إلا بإذن اللّه.. وأن النظر في ملكوت السموات والأرض، وإن كان مطلوبا من كل عاقل أن ينظر في هذا الملكوت، وأن يطيل النظر فيه دارسا متفحصا، باحثا عن دلائل وجود اللّه، وما له في هذا الملكوت من إبداع، وما له عليه من سلطان- هذا النظر لن يصل بصاحبه إلى الإيمان، ولن يفتح قلبه له، إلا إذا كان هذا الناظر ممن أراد اللّه لهم أن يكونوا مؤمنين.. أما الذين قدّر اللّه عليهم ألا يؤمنوا، فلن يؤمنوا، أبدا، ولو نطقت أمامهم الآيات، وأسمعتهم ما أودع الخالق فيها من بديع صنعه، ورائع حكمته وقدرته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [6: البقرة].
وهذه هى قضية القضاء والقدر.. وقد وعدنا أن نعرض لها، وسنعرض لها إن شاء اللّه في سورة الكهف.
قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} هو تهديد لهؤلاء الكافرين، ووعيد لهم، بما ينتظرهم من بلاء وعذاب، وإنه كما أخذ الذين كفروا من قبلهم بالهلاك، سيؤخذون هم به.. فلينتظروا فلينظروا، وليستقبلوا ما يطلع عليهم من وراء هذا الانتظار، من نقم اللّه، وما تحمل إليهم من مهلكات. وما تسوق إليهم من بلاء ونكال.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو تبشير للمؤمنين، وتطمين لهم من أن يصيبهم شيء من هذا المكروه الذي سيحّل بالكافرين.. فالمؤمنون بمنجاة من هذا المكروه.. إنهم مع رسل اللّه، وإن اللّه سبحانه وتعالى لن يتخلّى عن رسله، ولن يريهم منه إلا ما يسرّهم من الأمن والعافية، والدرجات العليا عنده.. وكذلك المؤمنون الذين اتّبعوا الرسل.. إنهم معهم حيث يكونون.. فالمرء مع من أحبّ.. وفى هذا خزى للكافرين، إذ حرموا من أن ينالوا شيئا من هذا الذي ينعم فيه المؤمنون مع رسل اللّه.. من نصر اللّه وتأييده.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن هذا الوعد الذي وعده اللّه رسله والمؤمنين، هو وعد حقّ لا شكّ فيه، قد أوجبه اللّه على نفسه، فضلا وكرما، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكما يقول سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21: المجادلة].
وفى جزم الفعل {ننج} ما يكشف عن مزيد من فضل اللّه وكرمه وإحسانه إلى عباده المؤمنين.. ففى مجىء الفعل {ننج} مجزوما، ولا جازم له، يفتح الطريق إلى تقدير فعل أمر، ليقع هذا الفعل تحت سلطان الأمر من اللّه سبحانه وتعالى.. وهو أمر من اللّه سبحانه، إلى اللّه سبحانه!! والتقدير: كذلك حقّا علينا إنجاء المؤمنين.. فلننجهم إذن!! فسبحانه من ربّ كريم، يفيض على المؤمنين من عباده ما لا يفيض الأب البرّ الرحيم على صغاره، من حدبه، وعطفه، وتبسطه معهم، وتدليله لهم.!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8